الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
وتجوز العارية مطلقة ومؤقتة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام وللمعير الرجوع في العارية أي وقت شاء سواء كانت مطلقة أو مؤقتة, ما لم يأذن في شغله بشيء يتضرر بالرجوع فيه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك إن كانت مؤقتة فليس له الرجوع قبل الوقت, وإن لم تؤقت له مدة لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها لأن المعير قد ملكه المنفعة في مدة وصارت العين في يده بعقد مباح, فلم يملك الرجوع فيها بغير اختيار المالك كالعبد الموصى بخدمته والمستأجر ولنا أن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده, فلم يملكها بالإعارة كما لو لم تحصل العين في يده وأما العبد الموصى بخدمته, فللموصي الرجوع ولم يملك الورثة الرجوع لأن التبرع من غيرهم وأما المستأجر فإنه مملوك بعقد معاوضة, فيلزم بخلاف مسألتنا ويجوز للمستعير الرد متى شاء بغير خلاف نعلمه لأنه إباحة فكان لمن أبيح له تركه, كإباحة الطعام. وإذا أطلق المدة في العارية فله أن ينتفع بها ما لم يرجع وإن وقتها فله أن ينتفع ما لم يرجع, أو ينقضي الوقت لأنه استباح ذلك بالإذن ففيما عدا محل الإذن يبقى على أصل التحريم فإن كان المعار أرضا لم يكن له أن يغرس, ولا يبني ولا يزرع بعد الوقت أو الرجوع فإن فعل شيئا من ذلك, لزمه قلع غرسه وبنائه وحكمه حكم الغاصب في ذلك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ليس لعرق ظالم حق) وعليه أجر ما استوفاه من نفع الأرض على وجه العدوان ويلزمه القلع, وتسوية الحفر ونقض الأرض وسائر أحكام الغصب لأنه عدوان. فإن أعاره شيئا لينتفع به انتفاعا يلزم من الرجوع في العارية في أثنائه ضرر بالمستعير, لم يجز له الرجوع لأن الرجوع يضر بالمستعير فلم يجز له الإضرار به مثل أن يعيره لوحا يرقع به سفينته, فرقعها به ولجج بها في البحر لم يجز الرجوع ما دامت في البحر, وله الرجوع قبل دخولها في البحر وبعد الخروج منه لعدم الضرر فيه وإن أعاره أرضا ليدفن فيها فله الرجوع ما لم يدفن فيها فإذا دفن لم يكن له الرجوع, ما لم يبل الميت وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه جاز كما تجوز إعارة الأرض للبناء والغراس, وله الرجوع ما لم يضعه وبعد وضعه ما لم يبن عليه لأنه لا ضرر فيه فإن بنى عليه, لم يجز الرجوع لما في ذلك من هدم البناء وإن قال: أنا أدفع إليك أرش ما نقص بالقلع لم يلزم المستعير ذلك لأنه إذا قلعه انقلع ما في ملك المستعير منه ولا يجب على المستعير قلع شيء من ملكه بضمان القيمة وإن انهدم الحائط وزال الخشب عنه أو أزاله المستعير باختياره لم يملك إعادته, سواء بنى الحائط بآلته أو بغيرها لأن العارية لا تلزم وإنما امتنع الرجوع قبل انهدامه لما فيه من الضرر بالمستعير بإزالة المأذون في وضعه, وقد زال ذلك وكذلك إذا سقط الخشب والحائط بحاله وإن أعاره أرضا لزراعة شيء فله الرجوع ما لم يزرع فإذا زرع لم يملك الرجوع فيها إلى أن ينتهي الزرع فإن بذل له قيمة الزرع ليملكه, لم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأن له وقتا ينتهي إليه فإن كان مما يحصد قصيلا فله الرجوع في وقت إمكان حصاده لعدم الضرر فيه وإن لم يكن كذلك, لم يكن له الرجوع حتى ينتهي وإن أذن له في البناء والغراس فيها فله الرجوع قبل قلعه فإذا غرس وبنى فللمالك الرجوع فيما بين الغراس والبناء ولأنه لم يتعلق به ملك المستعير, ولا ضرر عليه في الرجوع فيه فأشبه ما لو لم يبن في الأرض شيئا ولم يغرس فيها ثم إن اختار المستعير أخذ بنائه وغراسه, فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله ولا يلزمه تسوية الحفر ذكره القاضي لأن المعير رضي بذلك حيث أعاره مع علمه بأن له قلع غرسه ويحتمل أن عليه تسوية الحفر لأن القلع باختياره فإنه لو امتنع منه لم يجبر عليه, فلزمه تسوية الأرض كما لو خرب أرضه التي لم يستعرها وإن أبى القلع فبذل له المعير ما ينقص بالقلع, أو قيمة غراسه وبنائه قائما ليأخذه المعير أجبر المستعير عليه لأنه رجوع في العارية من غير إضرار وإن قال المستعير: أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي لم يكن له لأن الغراس تابع, والأرض أصل ولذلك يتبعها الغراس والبناء في البيع ولا تتبعهما, وبهذا كله قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يطالب المستعير بالقلع من غير ضمان إلا أن يكون أعاره مدة معلومة فرجع فيها قبل انقضائها لأن المعير لم يغره, فكان عليه القلع كما لو شرط عليه ولنا أنه بنى وغرس بإذن المعير, من غير شرط القلع فلم يلزمه القلع من غير ضمان كما لو طالبه قبل انقضاء الوقت وقولهم: لم يغره ممنوع فإن الغراس والبناء يراد للتبقية, وتقدير المدة ينصرف إلى ابتدائه كأنه قال له: لا تغرس بعد هذه المدة فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النقص وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر, لم يقلع لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان والإذن فيما يبقى على الدوام وتضر إزالته رضي بالإبقاء وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ليس لعرق ظالم حق) يدل بمفهومه على أن العرق الذي ليس بظالم له حق, فعند ذلك إن اتفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها, ودفع إلى كل واحد منهما قدر حقه فيقال: كم قيمة الأرض غير مغروسة ولا مبنية؟ فإذا قيل عشرة قلنا: وكم تساوي مغروسة ومبنية؟ فإن قالوا: خمسة عشر قلنا: فللمعير ثلثا الثمن وللمستعير ثلثه وإن امتنعا من البيع, بقيا على حالهما وللمعير دخول أرضه كيف شاء والانتفاع بها بما لا يضر الغراس والبناء, ولا ينتفع بهما وليس لصاحب الغراس والبناء الدخول إلا لحاجة مثل السقي وإصلاح الثمرة لأن الإذن في الغراس إذن فيما يعود بصلاحه, وأخذ ثماره وسقيه وليس له دخولها للتفرج لأنه قد رجع في الإذن له ولكل واحد منهما بيع ما يختص به من الملك منفردا فيكون للمشتري مثل ما كان لبائعه وقال بعض أصحاب الشافعي: ليس للمستعير بيع الشجر لأن ملكه فيه غير مستقر, بدليل أن للمعير أخذه متى شاء بقيمته قلنا: عدم استقراره لا يمنع بيعه بدليل الشقص المشفوع والصداق قبل الدخول وفي جميع هذه المسائل متى كان المعير شرط على المستعير القلع عند رجوعه, ورد العارية غير مشغولة لزمه ذلك لأن المسلمين على شروطهم ولأن العارية مقيدة غير مطلقة, فلم تتناول ما عدا المقيد لأن المستعير دخل في العارية راضيا بالتزام الضرر الداخل عليه بالقلع وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه ولا نعلم في هذا خلافا وأما تسوية الحفر الحاصلة بالقلع فإذا كانت مشروطة عليه لزمه لما ذكرنا, وإلا لم يلزم لأنه رضي بضرر القلع من الحفر ونحوه حيث اشترط القلع ولم يذكر أصحابنا على المستعير أجرا في شيء من هذه المسائل إلا فيما إذا استعار أرضا للزرع, فزرعها ثم رجع المعير فيها قبل كمال الزرع فإن عليه أجر مثله, من حين رجع المعير لأن الأصل جواز الرجوع وإنما منع من القلع لما فيه من الضرر ففي دفع الأجر جمع بين الحقين, فيخرج في سائر المسائل مثل هذا لوجود هذا المعنى فيه ويحتمل أن لا يجب الأجر في شيء من المواضع لأن حكم العارية باق فيه لكونها صارت لازمة للضرر اللاحق بفسخها, والإعارة تقتضى الانتفاع بغير عوض. وإذا استعار دابة ليركبها جاز لأن إجارتها لذلك جائزة والإعارة أوسع, لجوازها فيما لا تجوز إجارته مثل إعارة الكلب للصيد فإن استعارها إلى موضع فجاوزه, فقد تعدى وعليه الأجرة للزيادة خاصة فإذا استعارها إلى طبرية فتجاوز إلى القدس, فعليه أجر ما بين طبرية والقدس خاصة وإن اختلفا فقال المالك: أعرتكها إلى طبرية وقال المستعير: أعرتنيها إلى القدس فالقول قول المالك وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك إن كان يشبه ما قال المستعير فالقول قوله, وعليه الضمان ولنا أن المالك مدعى عليه فكان القول قوله, لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لكن اليمين على المدعي عليه) .
|